لم يكن هذا مقالي الأول عن نفس الموضوع، ولكني كتبت كثيرا عنه ولا زلت أكتب فهو ليس مجرد موضوع قد كتب، لا بل هو أبلغ من ذلك بكثير على الأقل بالنسبة لي.

“لقد صدعتي رؤوسنا بأحاديثك.” هكذا كان يقول لي كل من يجلس معي من باب النقد، ولكن النقد المبطن بعكس ما يبدو عليه الأمر في الواقع، وذلك لأنني أؤمن أنني دائما ما كنت في صف الصمت عندما تختل المشاعر عن الميزان الصحيح. دائما كان اعتقادي ولا زال بكل ثبات أن الصمت أبلغ بكثير من الجلبة والضجيج الذي لا طائل منه، وأن مكمن القوة والثبات والصمود في الهدوء والاتزان. وكم يزداد إيماني عندما أشعر أن تأثير اللطف والأدب يفوق تأثير الجلافة بمراحل.

أفضل الصمت على كثرة الثرثرة بما لا يجدي نفعا، أحب دائما كلمة اختصر وأطبقها في حياتي، لأنني عندما أتحدث أضبط كلماتي وأختصر فيما يتحقق بعد ذلك المراد المنشود. لا زلت أعيش بعالمي الصامت الذي انتقلت فيه حواسي الخارجية نحو الداخل فأصبح العالم الخارجي بالنسبة لي مزعجا للغاية.

انغمست كثيرا مع الصمت في ذاتي وأصبحت أدرك جيدا الأفكار والمشاعر الداخلية بصورة أوضح وأصفى من أي وقت، رأيت ذلك جليا أيضا من خلال عملي.

هل فكرت يوما أن تعمل بصمت؟ دون الاكتراث لمن هم حولك فقط تعمل بهدوء وبدون أن تلتفت لذلك العالم من حولك الذي يعج بالثرثرة.

عندما يكون العمل بصمت يكون الحديث عملي فقط وبأعلى قدر من الهمة، حينها سيصل الإنسان إلى مستويات أعمق.

الصمت بمثابة السور الذي يحيط بالحكمة، فيصبح الصمت أداة تعبير وأسلوب حديث ومفهوما اجتماعيا يجعل الناس يأملون فيه ويرون فيه سمات الشخص النبيل الذي يعمل في صمت بجد واجتهاد وأمانة وولاء دون تباهٍ أو تفاخر.

العمل بصمت مع توافر الرقابة الذاتية على العمل، ذلك يجمع بلا شك بين القيم المهنية والأخلاقية.

اعمل بصمت دون لفت أنظار الآخرين إليك فذلك يساعدك على إنجاز العمل بأكمل وجه ودون تعب أو تذمر او شكوى. اعمل بصمت ولا تبحث عن الأضواء. ولعل أبلغ حكمة أجدها تنطبق صحتها على الصمت هي حكمة مأثورة تقول: “إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك.”

عندما يشتغل الإنسان بغيره وينسى نفسه فهو دلالة مؤسفة على تعطل التفكير لديه. ” وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ”. تمعن في ذاتك واكتفِ بها تزكية وإعمارا بدل الانشغال عنها بغيرها مما يفوت لك فرصا كريمة لتكون إنسانا راقيا ومنتجا.

يقول المثل الإنجليزي: “السفن الفارغة تحدث ضجيجًا أعلى.” من المؤسف أن تجد أشخاص ليس لديهم شيئا ليقدموه سوى الأحاديث ، يتحدثون أكثر مما يعملون. اعمل واترك النتائج تقول كلمتها في الأخير.

من الأمور المسلم بها أن العمل بصمت يجعلك منجزا وأيضا يكفيك شرور القيل والقال. الصمت يشغلك بالتأمل مما قد يحسن نيتك وهدفك، ويبقيك صافيا مركزا في خير العمل.

العمل بصمت قيمة عالية.

لقد أصبحت فعليا أعيش في تلك المرحلة الرائعة وهي مرحلة التسليم وبها أعيش لذة لا تعدلها لذة، وسكينة وهدوء ومتعة لا مثيل لها. كل ذلك جعلني أتوصل لتلك الحقيقة التي أعيشها الآن وهي حالة عميقة من حالات السكينة وهي حالة مبهجة تسمى التصالح مع النفس.